فصل: فصل شَرَائِطِ صِحَّةِ الصوم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل حُكْم الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ

وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ فَالصَّوْمُ الْمُؤَقَّتُ نَوْعَانِ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ وُجُوبُ إمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ في حَالٍ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ في حَالٍ وَوُجُوبُ الْفِدَاءِ في حَالٍ أَمَّا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فَكُلُّ من كان له عُذْرٌ في صَوْمِ رَمَضَانَ في أَوَّلِ النَّهَارِ مَانِعٌ من الْوُجُوبِ أو مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَصَارَ بِحَالٍ لو كان عليه في أَوَّلِ النَّهَارِ لَوَجَبَ عليه الصَّوْمُ وَلَا يُبَاحُ له الْفِطْرُ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ في بَعْضِ النَّهَارِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَقَدِمَ الْمُسَافِرُ مع قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عليه إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَكَذَا من وَجَبَ عليه الصَّوْمُ في أَوَّلِ النَّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه الْمُضِيُّ فيه بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أو أَصْبَحَ يوم الشَّكِّ مُفْطِرًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ من رَمَضَانَ أو تَسَحَّرَ على ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لم يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ طَلَعَ فإنه يَجِبُ عليه الْإِمْسَاكُ في بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ من وَجَبَ عليه الصَّوْمُ في أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه الْمُضِيُّ مع قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عليه إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ على الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ في بَعْضِ النَّهَارِ وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليه ‏[‏عليهم‏]‏ الصَّوْمُ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عن الصَّوْمِ وَالصَّوْمُ لم يَجِبْ فلم يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فَقَدِمَ بعدما أَكَلَ النَّاذِرُ فيه أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال في يَوْمِ عَاشُورَاءَ ألا من أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ‏.‏

وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كان فَرْضًا يَوْمئِذٍ وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هذا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فإذا عَجَزَ عن تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فيه يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كان أَهْلًا لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ وفي حَقِّ هذا الْمَعْنَى الْوُجُوبُ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ‏.‏ وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عن الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حتى يَجِبَ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ في قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا في كتاب الصَّلَاةِ وَسَوَاءٌ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أو بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ على الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ على الْمُقَصِّرِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وهو الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَشَدُّ وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ على الْقَضَاءِ حتى لو فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أو السَّفَرِ ولم يَزَلْ مَرِيضًا أو مُسَافِرًا حتى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ مَاتَ قبل وُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عنه صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه وَيُطْعَمُ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ على الْوُجُوبِ كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه شَيْءٌ كَذَا هذا فَإِنْ برأ الْمَرِيضُ أو قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ من الْوَقْتِ بِقَدْرِ ما فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ ما أَدْرَكَ لِأَنَّهُ قَدَرَ على الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ فَإِنْ لم يَصُمْ حتى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عنه لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قد وَجَبَ عليه ثُمَّ عَجَزَ عنه بَعْدَ وُجُوبِهِ بِتَقْصِيرٍ منه فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وهو الْفِدْيَةُ‏.‏

وَالْأَصْلُ فيه ما رَوَى أبو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وهو شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هل يُقْضَى عنه فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ مَاتَ قبل أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا يُقْضَى عنه وَإِنْ مَاتَ وهو مَرِيضٌ وقد أَطَاقَ الصِّيَامَ في مَرَضِهِ ذلك فَلْيُقْضَ عنه وَالْمُرَادُ منه الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَلِأَنَّ ما لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم مُفَسَّرًا أَنَّهُ قال من مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عنه وَلِيُّهُ وهو مَحْمُولٌ على ما إذَا أَوْصَى أو على النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذلك وإذا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَإِنْ لم يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لم يَتَبَرَّعُوا لم يَلْزَمْهُمْ وَتَسْقُطُ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ من جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أو لم يُوصِ وَالِاخْتِلَافُ فيه كَالِاخْتِلَافِ في الزَّكَاةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عنها وَالْأَصْلُ لَا يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عن غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ على ما بَيَّنَّا في كتاب الزَّكَاةِ هذا إذَا أَدْرَكَ من الْوَقْتِ بِقَدْرِ ما فَاتَهُ فَمَاتَ قبل أَنْ يَقْضِيَ فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ ما يَقْضِي فيه الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ ما صَحَّ ولم يذكر الْخِلَافَ حتى لو مَاتَ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ الذي لم يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عليه رَأْسًا‏.‏ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هذه الْمَسْأَلَةَ على الِاخْتِلَافِ فقال في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حتى يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لم يَصُمْ ذلك الْيَوْمَ وَإِنْ صَامَهُ لم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ‏.‏

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ ما أَدْرَكَ وذكر ‏[‏وما‏]‏ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إن ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وما أَثْبَتَهُ الطَّحَاوِيُّ من الِاخْتِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ وَإِنَّمَا ذلك في مَسْأَلَةِ النَّذْرِ وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا فَإِنْ مَاتَ قبل أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ ما يَصِحُّ على ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَإِنْ كان مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ على الِاتِّفَاقِ على ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَوَجْهُ هذا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إذْ لو لم يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ ما لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا ولم يَقْدِرْ إلَّا على صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذلك الْقَدْرُ فَإِنْ صَامَ ذلك الْقَدْرَ فَقَدْ أتى بِمَا عليه فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ وَإِنْ لم يَصُمْ فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عليه فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لم يَجِبْ عليه من الصَّوْمِ إلَّا ذلك الْقَدْرُ وَإِنْ كانت الْمَسْأَلَتَانِ على الِاخْتِلَافِ على ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْمَسْأَلَتَيْنِ ما ذَكَرْنَا وهو لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وهو أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ من صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ أَيَّامِ الصِّحَّةِ حتى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ ما يَقْدِرُ عليه من الصَّوْمِ يَصْلُحُ له الْأَيَّامَ كُلَّهَا على طَرِيقِ الْبَدَلِ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ على الْكُلِّ فإذا لم يَصُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ وإذا صَامَ فِيمَا قَدَرَ وَصَارَ قَدْرُ ما صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فلم يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ آخَرَ فلم يَكُنْ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ على الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْقَضَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكتاب وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ في الْوَقْتِ فَهَلْ هو شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ في ذلك وَخَرَّجْنَا ما يَتَّصِلُ بِهِ من الْمَسَائِلِ على الْقَوْلَيْنِ ما فيه اتِّفَاقٌ وما فيه اخْتِلَافٌ وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ وقد ذَكَرْنَاهُ وهو سَائِرُ الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عن وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ الأقات ‏[‏الأوقات‏]‏ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْكَلَامُ في كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ على الْفَوْرِ أو على التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ في كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ أَصْلًا كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ على التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ في مُطْلَقِ الْوَقْتِ غير عَيِّنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فيه تَعَيَّنَ ذلك الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِنْ لم يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ عليه في آخِرِ عُمُرِهِ في زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فيه من الْأَدَاءِ قبل مَوْتِهِ‏.‏

وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ على الْفَوْرِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الحديث الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ على الْفَوْرِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ

وفي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بين أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ في كتاب الْحَجِّ إن شاء الله تعالى‏.‏ وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كان يقول في قَضَاءِ رَمَضَانَ أنه مُؤَقَّتٌ بِمَا بين رَمَضَانَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عن تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا أنه لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عليه قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ وَلَوْ كان للوجوب ‏[‏الوجوب‏]‏ على الْفَوْرِ لَكُرِهَ له التَّطَوُّعُ قبل الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عن وَقْتِهِ الْمَضِيقِ وأنه مَكْرُوهٌ وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا أنه إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حتى دخل رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عليه‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ عليه الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قال بِالْوُجُوبِ على الْفَوْرِ مع رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ في الْأَمْرِ على تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا على الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا تَجِبُ خَلَفًا عن الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن تَحْصِيلِهِ عَجْزًا لَا تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ عَادَةً كما في حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي ولم يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْقَضَاءِ فلامعنى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فما هو شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ بجواز ‏[‏جواز‏]‏ قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ من اللَّيْلِ فإنه يَجُوزُ الْقَضَاءُ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَثْنَاةَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ من اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما ذَكَرْنَا وَالله الموفق‏.‏

وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِدَاءِ فَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عن الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ في جَمِيعِ عُمْرِهِ فَلَا يَجِبُ إلَّا على الشَّيْخِ الْفَانِي وَلَا فِدَاءَ على الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا على الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ من يُفْطِرُ لِعُذْرٍ تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وهو الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ خَلَفٌ عن الْقَضَاءِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كما في سَائِرِ الْأَخْلَافِ مع أُصُولِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ على الصَّوْمِ بَطَلَ الْفِدَاءُ‏.‏

وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ في وقد ‏[‏وقت‏]‏ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ وَقَدَرَ على الْقَضَاءِ وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما فَاتَهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ ما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد تَقَدَّمَ وَلَوْ مَاتَ قبل مَمَرِّ الْوَقْتِ فَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُضَافٌ إلَى زَمَانٍ مُتَعَيَّنٍ فإذا مَاتَ قَبْلَهُ لم يَجِبْ عليه فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كما لو مَاتَ قبل دُخُولِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ الْوَقْتَ وهو مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قبل أَنْ يَبْرَأَ فَلَا قَضَاءَ عليه فَإِنْ برأ قبل الْمَوْتِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كما في صَوْمِ رَمَضَانَ وَلَوْ نَذَرَ وهو صَحِيحٌ وَصَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ وهو صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَمَاتَ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِمَا بَقِيَ من الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ وهو مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قبل أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقَدْرِ ما صَحَّ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ ما يُسَنُّ وما يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وما يُكْرَهُ له

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسَنُّ وما يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وما يُكْرَهُ له أَنْ يَفْعَلَهُ فَنَقُولُ يُسَنُّ لِلصَّائِمِ السُّحُورُ لِمَا رُوِيَ عن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ فصلا بين صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكتاب أَكْلَةُ السُّحُورِ وَلِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ على صِيَامِ النَّهَارِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النبي صلى الله عليه وسلم في النَّدْبِ إلَى السُّحُورِ فقال اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ على قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلِ السُّحُورِ على صِيَامِ النَّهَارِ وَالسُّنَّةُ فيها هو التَّأْخِيرُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ فيه أَبْلَغُ وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَأْخِيرُ السُّحُورِ وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَوَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ وفي رواية‏:‏ قال ثَلَاثٌ من أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ وَلَوْ شَكَّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ لَا يَأْكُلَ هَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا شَكَّ في الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَجْرَ قد طَلَعَ فَيَكُونُ الْأَكْلُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عنه وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِوَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ وَلَوْ أَكَلَ وهو شَاكٌّ لَا يُحْكَمُ عليه بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فيه لِوُقُوعِ الشَّكِّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ مع أَنَّ الْأَصْلَ هو بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ وَهَلْ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مع الشَّكِّ رَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ‏.‏

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ إنه إذَا شَكَّ فَلَا يَأْكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه وَاَلَّذِي يَأْكُلُ مع الشَّكِّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه فَكَانَ بِالْأَكْلِ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ له ذلك وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لو ظَهَرَ على أَمَارَةِ الطُّلُوعِ من ضَرْبِ الدِّبْدَابِ وَالْأَذَانِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا وَلَا تَعْوِيلَ على ذلك لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هذا إذَا تَسَحَّرَ وهو شَاكٌّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَّا إذَا تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ فذكر في الْأَصْلِ وقال إنَّ الْأَحَبَّ إلَيْنَا أَنْ يَقْضِيَ‏.‏ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عليه وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ على يَقِينٍ من اللَّيْلِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بقين ‏[‏بيقين‏]‏ مِثْلِهِ‏.‏

وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ دَلِيلٌ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هو في حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ في الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما لم يَنْتَظِرُوا لِلْإِفْطَارِ طُلُوعَ النُّجُومِ والتأخير ‏[‏ولتأخير‏]‏ يُؤَدِّي إلَيْهِ وَلَوْ شَكَّ في غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يُفْطِرَ لِجَوَازِ أَنَّ الشَّمْسَ لم تَغْرُبْ فَكَانَ الْإِفْطَارُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ‏.‏

وَلَوْ أَفْطَرَ وهو شَاكٌّ في غُرُوبِ الشَّمْسِ ولم يَتَبَيَّنْ الْحَالَ بَعْدَ ذلك أنها غَرَبَتْ أَمْ لَا لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ وَلَا الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَحُّرِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ اللَّيْلَ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ فَلَا يَبْطُلُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بِالْمَشْكُوكِ فيه وَهَهُنَا النَّهَارُ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ اللَّيْلُ بِالشَّكِّ فَكَانَ الْإِفْطَارُ حَاصِلًا فِيمَا له حُكْمُ النَّهَارِ فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ احْتِيَاطًا فَأَمَّا في الْحُكْمِ المروي ‏[‏المار‏]‏ هو الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ حُكْمٌ حَادِثٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ وهو إفْسَادُ الصَّوْمِ وفي وُجُودِهِ شَكٌّ وَعَلَى هذا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ في مَسْأَلَةِ التَّسَحُّرِ بِأَنْ تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ‏.‏

وَلَوْ أَفْطَرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الشَّمْسَ قد غَرَبَتْ فَلَا قَضَاءَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ وَأَنَّهُ في الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ وَإِنْ كان غَالِبُ رَأْيِهِ أنها لم تَغْرُبْ فَلَا شَكَّ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ حُكْمُ الْأَصْلِ وهو بَقَاءُ النَّهَارِ فَوَقَعَ إفْطَارُهُ في النَّهَارِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قال بَعْضُهُمْ تَجِبُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ في وُجُوبِ الْعَمَلِ كَيْفَ وقد انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وهو بَقَاءُ النَّهَارِ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجِبُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغُرُوبِ قَائِمٌ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ وَالله أعلم‏.‏

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ فَعَلَ لَا يُفْطِرُهُ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اكْتَحَلَ وهو صَائِمٌ

وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس لِلْعَيْنِ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ وَإِنْ وجده في خلقه ‏[‏حلقه‏]‏ فَهْوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْهُنَ لِمَا قُلْنَا وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ أَنْ يَمْضُغَ الصَّائِمُ الْعِلْكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفصل شَيْءٌ منه فَيَدْخُلُ حَلْقَهُ فَكَانَ الْمَضْغُ تَعْرِيضًا لِصَوْمِهِ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُصُولَ شَيْءٍ منه إلَى الْجَوْفِ وَقِيلَ هذا إذَا كان مَعْجُونًا فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ يُفْطِرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ فَيَصِلُ شَيْءٌ منه إلَى جَوْفِهِ ظَاهِرًا وغالبا‏.‏

وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيَّتِهَا طَعَامًا وَهِيَ صَائِمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ منه إلَى جَوْفِهَا إلَّا إذَا كان لَا بُدَّ لها من ذلك فَلَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ الْعَسَلَ أو السَّمْنَ أو الزَّيْتَ وَنَحْوَ ذلك بِلِسَانِهِ لِيَعْرِفَ أَنَّهُ جَيِّدٌ أو رَدِيءٌ وَإِنْ لم يَدْخُلْ حَلْقَهُ ذلك وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ لِتَعْرِفَ طَعْمَهَا لِأَنَّهُ يُخَافُ وُصُولُ شَيْءٍ منه إلَى الْحَلْقِ فَتُفْطِرُ وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ سَوَاءٌ كان السِّوَاكُ يَابِسًا أو رَطْبًا مَبْلُولًا أو غير مَبْلُولٍ وقال أبو يُوسُفَ إذَا كان مَبْلُولًا يُكْرَهُ وقال الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ في آخِرِ النَّهَارِ كَيْفَمَا كان‏.‏

وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَخُلُوفُ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ من رِيحِ الْمِسْكِ وَالِاسْتِيَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ فَيُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِيَاكَ بِالْمَبْلُولِ من السِّوَاكِ إدْخَالُ الْمَاءِ في الْفَمِ من غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَ الِاسْتِيَاكَ بِالْخَيْرِيَّةِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين الْمَبْلُولِ وَغَيْرِ الْمَبْلُولِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه تَطْهِيرُ الْفَمِ فَيَسْتَوِي فيه الْمَبْلُولُ وَغَيْرُهُ وأول ‏[‏أول‏]‏ النَّهَارِ وَآخِرَهُ كَالْمَضْمَضَةِ‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه تَفْخِيمُ شَأْنِ الصَّائِمِ وَالتَّرْغِيبُ في الصَّوْمِ وَالتَّنْبِيهُ على كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُرْضِيهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أو يُحْمَلُ على أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عن الْكَلَامِ مع الصَّائِمِ لِتَغَيُّرِ فَمِهِ بِالصَّوْمِ فَمَنَعَهُمْ عن ذلك وَدَعَاهُمْ إلَى الْكَلَامِ وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ وَيُبَاشِرَ إذَا أَمِنَ على نَفْسِهِ ما سِوَى ذلك أَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا روى أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فقال أَرَأَيْتَ لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ قال لَا قال فَصُمْ إذًا وفي رواية‏:‏ أُخْرَى عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال هَشَشْتُ إلَى أَهْلِي ثُمَّ أُتِيتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقُلْت إنِّي عَمِلْتُ الْيَوْمَ عَمَلًا عَظِيمًا إنِّي قَبَّلْتُ وأنا صَائِمٌ فقال أَرَأَيْتَ لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ أَكَانَ يَضُرُّكَ قلت لَا قال فَصُمْ إذًا وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُقَبِّلُ وهو صَائِمٌ وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا وَشَيْخًا سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَنَهَى الشَّابَّ وَرَخَّصَ لِلشَّيْخِ وقال الشَّيْخُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وأنا أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِي وفي رواية‏:‏ الشَّيْخُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُبَاشِرُ وهو صَائِمٌ وكان أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَا يُؤْمَنُ على ما سِوَى ذلك ظَاهِرًا وَغَالِبًا بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ وفي حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ حَيْثُ قالت وكان أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ‏.‏

قال أبو يُوسُفَ وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى حلقة وَلَا ضَرُورَةَ فيه وَإِنْ كان لِلْوُضُوءِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ وَالِاغْتِسَالُ وَصَبُّ الْمَاءِ على الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفُ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَبَّ على رَأْسِهِ مَاءً من شِدَّةٍ الْحَرِّ وهو صَائِمٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَبُلُّ الثَّوْبَ وَيَتَلَفَّفُ بِهِ وهو صَائِمٌ وَلِأَنَّهُ ليس فيه إلَّا دَفْعُ أَذَى الْحَرِّ فَلَا يُكْرَهُ كما لو اسْتَظَلَّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فيه إظْهَارَ الضَّجَرِ من الْعِبَادَةِ وَالِامْتِنَاعِ عن تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهَا وَفِعْلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَحْمُولٌ على حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ حَالُ خَوْفِ الْإِفْطَارِ من شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَذَا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَحْمُولٌ على مِثْلُ هذه الْحَالَةِ وَلَا كَلَامَ فيه وَلَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ مُحْرِمٌ وَلَوْ احْتَجَمَ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ أَصْحَابِ الحديث يُفْطِرهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على مَعْقِلِ بن يَسَارٍ وهو يَحْتَجِمُ في رَمَضَانَ فقال أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ وَلَوْ كان الِاحْتِجَامُ يُفْطِرُ لَمَا فَعَلَهُ وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ وَأَمَّا ما رُوِيَ من الحديث فَقَدْ قِيلَ أنه كان ذلك في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رُخِّصَ بَعْدَ ذلك وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس في الحديث إثْبَاتُ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مِنْهُمَا ما يُوجِبُ الْفِطْرَ وهو ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ كما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْجِمُ رَجُلًا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فقال أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَيْ بِسَبَبِ الْغِيبَةِ مِنْهُمَا على ما رُوِيَ الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَلِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَيْسَتْ إلَّا إخْرَاجَ شَيْءٍ من الدَّمِ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ كَذَا قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏.‏

وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ التي لها زَوْجٌ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلِأَنَّ له حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بها وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك في حَالِ الصَّوْمِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا إنْ كان يَضُرُّهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مع الصَّوْمِ فَكَانَ له مَنْعُهَا فَإِنْ كان صِيَامُهَا لَا يَضُرُّهُ بِأَنْ كان صَائِمًا أو مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ على الْجِمَاعِ فَلَيْسَ له أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ كان لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فإذا لم يَقْدِرْ على الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَلَيْسَ لِعَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا مُدَبَّرَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا في الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وهو الْفَرَائِضُ فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى التَّطَوُّعِ وَسَوَاءٌ كان ذلك يَضُرُّ الْمَوْلَى أو لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْمِلْكِ فَلَا يَقِفُ على الضَّرَرِ‏.‏

وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُفَطِّرَ الْمَرْأَةَ إذَا صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَذَا لِلْمَوْلَى وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ إذَا أَذِنَ لها زَوْجُهَا أو بَانَتْ منه وَيَقْضِي الْعَبْدُ إذَا أَذِنَ له الْمَوْلَى أو أُعْتِقَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعِ قد صَحَّ منهما إلَّا أَنَّهُمَا مُنِعَا من الْمُضِيِّ فيه لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فإذا أَفْطَرَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْأَجِيرُ الذي اسْتَأْجَرَهُ الرَّجُلُ لِيَخْدِمَهُ فَلَا يَصُومُ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ صَوْمَهُ يَضُرُّ الْمُسْتَأْجِرَ حتى لو كان لَا يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ في مَنَافِعِهِ بِقَدْرِ ما يتأدى ‏[‏تتأدى‏]‏ بِهِ الْخِدْمَةُ وَالْخِدْمَةَ حَاصِلَةٌ له من غَيْرِ خَلَلٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ أن له أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كان لَا يَضُرُّهُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ مِلْكُ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ في حَقِّ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ سِوَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَهَهُنَا الْمَانِعُ مِلْكُ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وهو قَدْرُ ما تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ وَذَلِكَ الْقَدْرُ حَاصِلٌ من غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ وَأَمَّا بِنْتُ الرَّجُلِ وَأُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَلَهَا أَنْ تطوع ‏[‏تتطوع‏]‏ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له في مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كما لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ‏.‏

وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أو مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فيه الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ له أَنْ يُفْطِرَ في ذلك الْيَوْمِ وَإِنْ كان مُسَافِرًا في أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وهو الْإِقَامَةُ َالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وهو السَّفَرُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حتى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ فيه وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وهو مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا شيئا حُكِيَ عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال يُكْرَهُ فيها لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن قَضَاءِ رَمَضَانَ في الْعَشْرِ والصحيح ‏[‏الصحيح‏]‏ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ يُسْتَحَبُّ فيها الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فيها أَوْلَى من الْقَضَاءِ في غَيْرِهَا وما رُوِيَ من الحديث غَرِيبٌ في حَدِّ الْأَحَادِيثِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكتاب وَتَخْصِيصُهُ بمثله أو نَحْمِلُهُ على النَّدْبِ في حَقِّ من اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ فَالْأَفْضَلُ في حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ في غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هذه الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ في وَقْتٍ آخَرَ وَالله أعلم‏.‏ بِالصَّوَابِ‏.‏

كتاب الاعتكاف الْكَلَامُ في هذا الْكتاب يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الاعتكاف وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وفي بَيَان رُكْنِهِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الاعتكاف وما يُفْسِدُهُ وما لَا يُفْسِدُهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ له أَمَّا الْأَوَّلُ فَالاعتكاف في الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلٌ وهو النَّذْرُ الْمُطْلَقُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أو شَهْرًا أو نحو ذلك أو عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أو إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أو نحو ذلك وَالثَّانِي فِعْلٌ وهو الشُّرُوعُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ في الْأَصْلِ سُنَّةٌ مُوَاظَبَةُ النبي صلى الله عليه وسلم فإنه رُوِيَ عن عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ من شَهْرِ رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الاعتكاف وقد كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ ولم يَتْرُكْ الاعتكاف مُنْذُ دخل الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ وَمُوَاظَبَةُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً في الإصل وَلِأَنَّ الاعتكاف تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عن الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ على خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حتى قال عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ مَثَلُ الذي أَلْقَى نَفْسَهُ بين يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يقول لَا أَبْرَحُ حتى يَغْفِرَ لي وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فيه من إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ وَالْعَزِيمَةُ في الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بها بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالاعتكاف اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حتى لو نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ التي لَا رُخْصَةَ في تَرْكِهَا وَالله أعلم‏.‏

فصل شَرَائِطِ صِحَّةِ الصوم

وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فيه أَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وأنها شَرْطُ الْجَوَازِ في نَوْعَيْ الاعتكاف الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جميعا لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَكَذَا الْمَجْنُونُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وهو ليس من أَهْلِ النِّيَّةِ وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ عن الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا في الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الاعتكاف فَيَصِحُّ من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْعِبَادَةِ كما يَصِحُّ منه صَوْمُ التَّطَوُّعِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ من الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ إنْ كان لها زَوْجٌ لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فإذا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عنه فإذا أُعْتِقَ قَضَاهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فإذا بَانَتْ قَضَتْ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فيها وللمولى ‏[‏وللولي‏]‏ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ في الْمَمْلُوكِ وفي الاعتكاف تَأْخِيرُ حَقِّهِمَا في اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ ما دَامَا في مِلْكِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فإذا بَانَتْ الْمَرْأَةُ وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكُ لَزِمَهُمَا قَضَاؤُهُ وَلِأَنَّ النَّذْرَ مِنْهُمَا قد صَحَّ لِوُجُودِهِ من الْأَهْلِ لَكِنَّهُمَا مُنِعَا لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فإذا سَقَطَ حَقُّهُمَا بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ‏.‏

وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ للمولى ‏[‏للولي‏]‏ أَنْ يَمْنَعَهُ من الاعتكاف الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتَبِهِ فَكَانَ كَالْحُرِّ في حَقِّ مَنَافِعِهِ وإذا أَذِنَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ بِالاعتكاف لم يَكُنْ له أَنْ يَرْجِعَ عنه لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لها بِالاعتكاف فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بها في زَمَانِ الاعتكاف وَهِيَ من أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عن ذلك وَالنَّهْيَ عنه بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ له مَوْلَاهُ بِالاعتكاف أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه لِأَنَّ هُنَاكَ ما مَلَّكَهُ الْمَوْلَى مَنَافِعَهُ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا أَعَارَهُ مَنَافِعَهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ في الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ له الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ خُلْفٌ في الْوَعْدِ وَغُرُورٌ فَيُكْرَهُ له ذلك‏.‏

وَمِنْهَا النِّيَّةُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَمِنْهَا الصَّوْمُ فإنه شَرْطٌ لِصِحَّةِ الاعتكاف الْوَاجِبِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ الاعتكاف بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وروى عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الاعتكاف ليس إلَّا الليث ‏[‏اللبث‏]‏ وَالْإِقَامَةَ وَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الصَّوْمِ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ له وَفِيهِ جَعْلُ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا وإنه قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ لِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ وَكَذَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الاعتكاف الْوَاجِبِ بِدُونِهِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَكَمَا رَأَى الْهِلَالَ يَجِبُ عليه الدُّخُولُ في الاعتكاف وَلَا صَوْمَ في ذلك الْوَقْتِ وَلَوْ كان شَرْطًا لَمَا جَازَ بِدُونِهِ فَضْلًا عن الْوُجُوبِ إذْ الشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ بِدُونِ شَرْطِهَا لَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفَ خَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه الصَّوْمُ بِالاعتكاف‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هو الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ثُمَّ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ وهو الْإِمْسَاكُ عن الْجِمَاعِ شَرْطُ صِحَّةِ الاعتكاف فَكَذَا الرُّكْنُ الْآخَرُ وهو الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِاسْتِوَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في كَوْنِهِ رُكْنًا لِلصَّوْمِ فإذا كان أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ شَرْطًا كان الْآخَرُ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ مَعْنَى هذه الْعِبَادَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْإِعْرَاضِ عن الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ على الْآخِرَةِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَرْكِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الْقِوَامِ وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ في اللَّيَالِي وَلَا ضَرُورَةَ في الْجِمَاعِ وَقَوْلُهُ الاعتكاف ليس إلَّا اللُّبْثَ وَالْمُقَامَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هذا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ كما لم يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ وَالنِّيَّةُ وَكَذَا كَوْنُ الصَّوْمِ عِبَادَةً مَقْصُودَةً بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ أَلَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كَذَا هَهُنَا‏.‏

وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اعْتَمَدَ على هذه الرِّوَايَةِ وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ في الاعتكاف التَّطَوُّعِ عن أَصْحَابِنَا رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةٍ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وفي رواية‏:‏ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَصْلًا وهو رِوَايَةُ الْأَصْلِ فإذا لم يَكُنْ مُقَدَّرًا وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِيَوْمٍ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا ليس بِمُقَدَّرٍ بِخِلَافِ الاعتكاف الْوَاجِبِ فإنه مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عنه قبل تَمَامِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ وَأَمَّا إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه الدُّخُولَ في الاعتكاف في اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ دَخَلَتْ في الاعتكاف الْمُضَافِ إلَى الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ اسْمِ الشَّهْرِ إذْ هو اسْمٌ لِلْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي دَخَلَتْ تَبَعًا لَا أَصْلًا َمَقْصُودًا فَلَا يُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ كما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنه يَدْخُلُ فيه اللَّيَالِي وَيَكُونُ أَوَّلُ دُخُولِهِ فيه من اللَّيْلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَأَمَّا النَّذْرُ بِاعْتِكَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وهو الصَّوْمُ في زَمَانِ الاعتكاف وَإِنْ لم يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِ الاعتكاف لِأَنَّ ذلك أَفْضَلُ وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَالصَّوْمُ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ عَيْنًا وهو الْإِمْسَاكُ عن الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ‏}‏ فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فيه مَبْنِيٌّ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ في اعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ أو غَيْرُ مُقَدَّرٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَيَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَلَوْ سَاعَةً وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ فلما لم يَكُنْ مُقَدَّرًا على رِوَايَةِ الْأَصْلِ لم يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا له لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ إذْ صَوْمُ بَعْضِ الْيَوْمِ ليس بِمَشْرُوعٍ فَلَا يَصْلُحُ ‏(‏شَرْطًا لِمَا ليس بمقدر ‏[‏مقدرا‏]‏ وَلَمَّا كان مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ على رواية الحسن فالصوم يصلح شرطا لما ليس بمقدر ولما كان مقدرا بيوم على رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَالصَّوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا له وَالْكَلَامُ فيه يَأْتِي في مَوْضِعِهِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا بِصَوْمٍ وَالتَّعْيِينِ إلَيْهِ فإذا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَطْلُعُ الْفَجْرُ وهو فيه فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ ذلك وَيَخْرُجُ منه بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ وهو من طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ حتى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ في جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا كان التَّعْيِينُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُعَيِّنْ الْيَوْمَ في النَّذْرِ‏.‏

وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً لم يَصِحَّ ولم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ صِحَّةِ الاعتكاف فَاللَّيْلُ ليس بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ ولم يُوجَدْ منه ما يُوجِبُ دُخُولَهُ في الاعتكاف تَبَعًا فَالنَّذْرُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الاعتكاف وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا لَزِمَهُ ذلك ولم يذكر مُحَمَّدٌ هذا التَّفْصِيلَ في الْأَصْلِ فَإِمَّا أَنْ يُوَفِّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَيَحْمِلَ الْمَذْكُورَ في الْأَصْلِ على ما إذَا لم تَكُنْ له نِيَّةٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ ما روى عن أبي ُوسُفَ اعْتِبَارُ الْفَرْدِ بِالْجَمْعِ وهو أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَيَّامِ كَذَا ذِكْرُ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ ذِكْرًا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَالْجَوَابُ أَنَّ هذا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنْ لم يَكُنْ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فيه تَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّبَعِ ما يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ قد أَكَلَ فيه لم يَصِحَّ ولم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الاعتكاف الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ في يَوْمٍ قد أَكَلَ فيه وإذا لم يَصِحَّ الصَّوْمُ لم يَصِحَّ الاعتكاف وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ له يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَتَعْيِينُ ذلك إلَيْهِ فإذا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَمْكُثُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَهَا ثُمَّ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لَا تَدْخُلُ في نَذْرِهِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بين الْيَوْمَيْنِ فَعَلَى قَوْلِهِ يَدْخُلُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَرُوِيَ عن ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ له أَنْ يَدْخُلَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَوْ دخل قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْيَوْمَ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ وَلَا ضَرُورَةَ في دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ ما إذَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَيْثُ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي لِأَنَّ الدُّخُولَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ كنا عِنْدَ فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُرِيدُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي وَمِثْلُ هذا الْعُرْفِ لم يُوجَدْ في التَّثْنِيَةِ وَلَهُمَا أَنَّ هذا الْعُرْفَ أَيْضًا ثَابِتٌ في التَّثْنِيَةِ كما في الْجَمْعِ ويقول ‏[‏يقول‏]‏ الرَّجُلُ كنا عِنْدَ فُلَانٍ يَوْمَيْنِ وَيُرِيدُ بِهِ يَوْمَيْنِ وما بِإِزَائِهِمَا من اللَّيَالِي

وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَكِنْ تَعْيِينُ الْيَوْمَيْنِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُعَيِّنْ في النَّذْرِ وَلَوْ نَوَى يَوْمَيْنِ خَاصَّةً دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّهُ ليس في لَفْظِهِ ما يَدُلُّ على التَّتَابُعِ وَالْيَوْمَانِ مُتَفَرِّقَانِ لِتَخَلُّلِ اللَّيْلَةِ بَيْنَهُمَا فَصَارَ الاعتكاف هَهُنَا كَالصَّوْمِ فَيَدْخُلُ في كل يَوْمٍ الْمَسْجِدَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ منه بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَذَا لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو أَكْثَرَ من ذلك وَلَا نِيَّةَ له أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ مع لَيَالِيهِنَّ وَتَعْيِينُهَا إلَيْهِ لَكِنْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَلَهُ خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْأَيَّامِ وَالْأَيَّامُ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ إلَّا بِالشَّرْطِ كما في الصَّوْمِ وَيَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ‏.‏

وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَتَيْنِ وَلَا نِيَّةَ له يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ لَيْلَتَيْنِ مع يَوْمَيْهِمَا وَكَذَلِكَ لو قال ثَلَاثَ لَيَالٍ أو أَكْثَرَ من ذلك من اللَّيَالِي وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَوْ نَوَى اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ اللَّيْلَ ليس وَقْتًا لِلصَّوْمِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي وَكَذَا اللَّيَالِي إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من الْأَيَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في قِصَّةِ زَكَرِيَّا عليه السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا‏}‏ وقال عز وجل في مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فلما عَبَّرَ في مَوْضِعٍ بِاسْمِ الْأَيَّامِ وفي مَوْضِعٍ بِاسْمِ اللَّيَالِي دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو وما بِإِزَاءِ صَاحِبِهِ حتى إن في الْمَوْضِعِ الذي لم تَكُنْ الْأَيَّامُ فيه على عَدَدِ اللَّيَالِي أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا‏}‏ وَلِلْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَهُنَا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ فيه كما في اسْمِ الْجَمْعِ على ما بَيَّنَّا‏.‏

وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ له فَهُوَ على الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ وَلَوْ قال نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ دُونَ ما نُقِلَ عنه بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هذه الْحَقِيقَةِ بَاقٍ فيصح ‏[‏فتصح‏]‏ نِيَّتُهُ ثُمَّ هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عن قَيْدِ التَّتَابُعِ وَكَذَا ذَاتُ الْأَيَّامِ لَا تَقْتَضِي التَّتَابُعَ لِتَخَلُّلِ ما ليس بِمَحَلٍّ لِلِاعْتِكَافِ بين كل يَوْمَيْنِ وَلَوْ قال عَنَيْت اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لم يُعْمَلْ بِنِيَّتِهِ وَلَزِمَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِأَنَّهُ لَمَا نَصَّ على الْأَيَّامِ فإذا قال نَوَيْت بها اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ فَقَدْ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وقال عَنَيْت بِهِ اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيَالِي في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الذي كانت الشَّمْسُ فيه غَائِبَةً إلَّا أن ‏[‏أنها‏]‏ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَتَنَاوَلُ ما بِإِزَائِهَا من الْأَيَّامِ بِالْعُرْفِ فإذا عني بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هذه الْحَقِيقَةِ بَاقٍ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ أَيَّ شَهْرٍ كان مُتَتَابِعًا في النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جميعا سَوَاءٌ ذَكَرَ التَّتَابُعَ أو لَا وَتَعْيِينُ ذلك الشَّهْرِ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وهو فيه فَيَعْتَكِفُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ولم يُعَيِّنْ ولم يذكر التَّتَابُعَ وَلَا نَوَاهُ إنه لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ بَلْ هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ

وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا من لُزُومِ التَّتَابُعِ في هذه الْمَسَائِلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ في شَيْءٍ من ذلك إلَّا بِذِكْرِ التَّتَابُعِ أو بِالنِّيَّةِ وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَجْهُ قَوْلِهِ إن اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عن قَيْدِ التَّتَابُعِ ولم يُنْوَ التَّتَابُعُ أَيْضًا فيجري على إطْلَاقِهِ كما في الصَّوْمِ‏.‏

وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الاعتكاف عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ وَمَبْنَاهَا على الإتصال لِأَنَّهُ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ وَاللَّيَالِيَ قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ فَلَا بُدَّ من التَّتَابُعِ وَإِنْ كان اللَّفْظُ مُطْلَقًا عن قَيْدِ التَّتَابُعِ لَكِنْ في لَفْظِهِ ما يَقْتَضِيهِ وفي ذَاتِهِ ما يُوجِبُهُ بِخِلَافِ ما إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا غير مُعَيِّنٍ إنه إذَا عَيَّنَ شَهْرًا له أَنْ يُفَرِّقَ لِأَنَّهُ أُوجِبَ مُطْلَقًا عن قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَيْسَ مَبْنَى حُصُولِهِ على التَّتَابُعِ بَلْ على التَّفْرِيقِ لِأَنَّ بين كل عِبَادَتَيْنِ منه وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لها وهو اللَّيْلُ فلم يُوجَدْ فيه قَيْدُ التَّتَابُعِ وَلَا اقْتِضَاءُ لَفْظُهُ وَتَعْيِينُهُ فَبَقِيَ له الْخِيَارُ وَلِهَذَا لم يَلْزَمْ التَّتَابُعُ فِيمَا لم يَتَقَيَّدْ بِالتَّتَابُعِ من الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ في الْكتاب كَذَا هذا وَلَوْ نَوَى في قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ لم تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ الاعتكاف شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جميعا لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُرَكَّبٌ من شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ في نَفْسِهِ كَالْبَلَقِ فإذا أَرَادَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَرَادَ بِالِاسْمِ ما لم يُوضَعْ له وَلَا احْتَمَلَهُ فَبَطَلَ كَمَنْ ذَكَرَ الْبَلَقَ وعني بِهِ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ فلم تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ‏.‏

وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْخَاتَمِ فإنه اسْمٌ لِلْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الإصالة وَالْفَصُّ كَالتَّابِعِ لها لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فيها زِينَةً لها فَكَانَ كَالْوَصْفِ لها فَجَازَ أَنْ يُذْكَرَ الْخَاتَمُ وَيُرَادَ بِهِ الْحَلْقَةُ فَأَمَّا هَهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ من الزَّمَانَيْنِ أَصْلٌ فلم يَنْطَلِقْ الِاسْمُ على أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا حَيْثُ انْصَرَفَ إلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا لَا نَقُولُ إنَّ اسْمَ الشَّهْرِ تَنَاوَلَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيَالِي لِمَا ذَكَرْنَا من الِاسْتِحَالَةِ بَلْ تَنَاوَلَ النَّهَارَ وَاللَّيَالِيَ جميعا فَكَانَ مُضِيفًا النَّذْرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيَالِي وَالنَّهَارِ جميعا مَعًا غير أَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَيْهَا فلم تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَا ذِكْرُ اللَّيَالِي وَالنَّهَارُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إن التَّصَرُّفَ الْمُصَادِفَ لِمَحَلِّهِ يَصِحُّ وَالْمُصَادِفَ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ يَلْغُو فَأَمَّا في الاعتكاف فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ كما الْتَزَمَ وهو اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا قال النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ كَمَنْ قال رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ منه دُونَ السَّوَادِ وكان هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالنَّهَارِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ في الْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِيِ فَصَاحِبُهُ فيه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ في الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جميعا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا‏.‏

وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فيه يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذلك وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما يصلح ‏[‏صح‏]‏ اعْتِكَافُهُ فيه كما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ على ما ذَكَرْنَا في كتاب الصَّوْمِ فَإِنْ لم يَعْتَكِفْ في رَجَبٍ حتى مَضَى يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ من غَيْرِ اعْتِكَافٍ صَارَ في ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ فيه كما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عن نَذْرِهِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ أَجْزَأَهُ عن نَذْرِهِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ وهو على الِاخْتِلَافِ في النَّذْرِ بِالصَّوْمِ في شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في كتاب النَّذْرِ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ يَصِحُّ نذكره ‏[‏نذره‏]‏ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ لِوُجُودِ الإلتزام بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ رمضان وَاعْتَكَفَ فيه خَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الاعتكاف وهو الصَّوْمُ وَإِنْ لم يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الاعتكاف لِأَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ إنَّمَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ معه كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ وهو مُحْدِثٌ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ وَلَوْ دخل وَقْتُ الظُّهْرِ وهو على الطَّهَارَةِ يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بها لِأَنَّ الشَّرْطَ هو الطَّهَارَةُ وقد وُجِدَتْ كَذَا هذا وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ ولم يَعْتَكِفْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الاعتكاف بِصَوْمٍ آخَرَ في شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الاعتكاف بَلْ يَسْقُطُ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غير مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ وقد تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ كما انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْبَقَاءِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّذْرَ بالاعتكاف في رَمَضَانَ قد صَحَّ وَوَجَبَ عليه الاعتكاف فيه فإذا لم يُؤَدِّ بَقِيَ وَاجِبًا عليه كما إذَا نَذَرَ بالاعتكاف في شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فلم يُؤَدِّهِ حتى مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عليه وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عليه إلَّا بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وهو الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عليه بِشَرْطِهِ وهو الصَّوْمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ نَذْرَهُ ما انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ في رَمَضَانَ فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ في غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ من الْأَدَاءِ في غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ فَيَجِبُ عليه الصَّوْمُ وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الاعتكاف في شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وقد فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كما إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فلم يَعْتَكِفْ فيه أَنَّهُ يَقْضِيهِ في شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا كَذَا هذا وَلَوْ لم يَصُمْ رَمَضَانَ ولم يَعْتَكِفْ فيه فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الاعتكاف جَازَ وَيَسْقُطُ عنه قَضَاءُ رَمَضَانَ وَخَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ الذي وَجَبَ فيه الاعتكاف بَاقٍ فَيَقْضِيهِمَا جميعا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا‏.‏

وَهَذَا لِأَنَّ ذلك الصَّوْمَ لَمَّا كان بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ الاعتكاف فيها صَوْمًا آخَرَ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذلك الصَّوْمِ كما انْعَقَدَ وَلَوْ صَامَ ولم يَعْتَكِفْ حتى دخل رَمَضَانُ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هذا الشَّهْرِ لم يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الاعتكاف يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ في ذِمَّتِهِ صَوْمٌ على حِدَةٍ وما وَجَبَ في الذِّمَّةِ من الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَهُوَ على الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا في الصَّوْمِ أن ‏[‏وأن‏]‏ على رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ له اقْضِ في يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كان أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ وَإِنْ أعتكف فيها جَازَ وَخَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ وكان مُسِيئًا

وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بالاعتكاف فيها أَصْلًا كما لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فيها وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ من لَوَازِمِ الاعتكاف الْوَاجِبِ فَكَانَ الْجَوَابُ في الاعتكاف كَالْجَوَابِ في الصَّوْمِ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فيه فَالْمَسْجِدُ وأنه شَرْطٌ في نَوْعَيْ الاعتكاف الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ‏}‏ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عَاكِفِينَ في الْمَسَاجِدِ مع أَنَّهُمْ لم يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ في الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عن الْجِمَاعِ فيها فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الاعتكاف هو الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فيه الاعتكاف الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الاعتكاف إلَّا في مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وقال الطَّحَاوِيُّ أنه يَصِحُّ في كل مَسْجِدٍ وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا في مَسْجِدٍ تُصَلَّى فيه الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه روى عنه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ في ذلك إلَى ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا اعْتِكَافَ إلَّا في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وروى أَنَّهُ قال لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لثلاث ‏[‏لثلاثة‏]‏ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هذا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وفي رواية‏:‏ وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ‏}‏ وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول الاعتكاف في كل مَسْجِدٍ له إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ والمروى أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنْ ثَبَتَ فَهُوَ على التَّنَاسُخِ لِأَنَّهُ روى أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ في مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ إذْ فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم يَصْلُحُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ أو يُحْمَلُ على بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ أو على المجاروة ‏[‏المجاورة‏]‏ على قَوْلِ من لَا يَكْرَهُهَا‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ على الزِّيَارَةِ أو على بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الاعتكاف أَنْ يَكُونَ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ في مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وهو مَسْجِدُ رسول اللَّهِ ثُمَّ في الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ في الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ لتي ‏[‏التي‏]‏ كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رسول اللَّهِ فَلِمَا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ في غَيْرِهِ من الْمَسَاجِدِ ما خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ من الْفَضَائِلِ ما ليس لِغَيْرِهِ من كَوْنِ الْكَعْبَةِ فيه وَلُزُومِ الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلى اللَّهُ تَعَالَى عليه وَعَلَيْهِمْ وسلم ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّهُ ليس بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رسول اللَّهِ مَسْجِدٌ أَفْضَلُ منه ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ لِأَنَّهُ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فذكر في الْأَصْلِ أنها لَا تَعْتَكِفُ إلَّا في مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ في مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وأن شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ في مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا أَفْضَلُ لها من مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لها من الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ بَلْ يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا في مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ على الرِّوَايَتَيْنِ جميعا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لَا على نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا في مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الاعتكاف قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا ليس بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هو اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ في حَقِّهَا حتى لَا يَثْبُتَ له شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هذه الْقُرْبَةِ فيه وَنَحْنُ نَقُولُ بَلْ هذه قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا له حُكْمُ الْمَسْجِدِ في حَقِّهَا في حَقِّ الاعتكاف لِأَنَّ له حُكْمَ الْمَسْجِدِ في حَقِّهَا في حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فأعطى له حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ في حَقِّهَا حتى كانت صَلَاتُهَا في بَيْتِهَا أَفْضَلَ على ما روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْمَرْأَةِ في مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا في صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في مَسْجِدِ حَيِّهَا وإذا كان له حُكْمُ الْمَسْجِدِ في حَقِّهَا في حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ في حَقِّ الاعتكاف لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ لها أَنْ تَعْتَكِفَ في بَيْتِهَا في غَيْرِ مَسْجِدٍ وهو الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس لِغَيْرِ ذلك الْمَوْضِعِ من بَيْتِهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فيه وَالله أعلم‏.‏